منذ أيام انتشرمقطع مصوّرلشيخٍ على منبره وهو يعرب عن استيائه من الواقع المعيشي في لبنان، داعياً الشعب اللبناني إلى “الثورة” لتغيير هذا الواقع. هذا الشيخ هو إمام مسجد “السجاد” في الضاحية الجنوبية لبيروت ياسر عودة. كلام الشيخ عودة لاقى كثيراً من الترحيب من قبل العديد من المواطنين، الذين اعتبروا أن كلامه صرخة تعبّر عن وجعهم اليومي من الفساد المستشري، حتى وصل عدد مشاهدي هذا المقطع إلى أكثر من 3 ملايين شخص على مواقع التواصل الإجتماعي.
إلا أن قسماً آخر من اللبنانيين، تجاوز كلام عودة الإجتماعي ليذهب للتمحيص في شخصيته وفكره الديني، ناسفين الكلام الذي صدر عنه، حتى اتهمه البعض بأن هدفه الشهرة، بينما رأى فيه البعض الآخر “مدسوساً” هدفه تعكير الصف الواحد داخل المجتمع الشيعي.
الموعد مع الشيخ عودة كان في مسجد “السجاد” في منطقة حيّ السلم بالضاحية الجنوبية. ندخل المسجد، فنجده في محرابه، يعلوه قولٌ للإمام الحسين “ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه”؟. ما إن انتهى من صلاته حتى اقتربنا منه، فرحّب بنا ودعانا إلى منزله. مستقلاً سيارة أحد رواد المسجد، توجّه إلى بيته الواقع في حي فقير من أحياء منطقة المريجة في الضاحية. وصل إلى منزله، وجلس على كنبته في بيته المتواضع، وضع عكازه جانباً، وعمامته على الطاولة. “أهلاً بكم في قصري”، قال عودة مبتسماً ومرحباً بنا في منزله المؤلف من ثلاث غرف.
بدأ عودة، عضو الهيئة الشرعية في مؤسسة السيد محمد حسين فضل الله، حديثه بتقييم لأحداث الأيام التي تلت المقطع المصور: “ما حصل مؤخراً يدل على أن الشعب اللبناني بمختلف طوائفه يمتلك الضمير الحي ويلتف حول القضايا الكبرى، ويشعر بالمعاناة بسبب الوضع المتردّي الذي وصلنا إليه في لبنان، وهذا الالتفاف يحتاج إلى ترجمة عبر القول للطبقة الفاسدة أن الشعب يعاني وأن المواطنين ليسوا قطيع غنم يُساق فقط”. وأعرب عودة عن استغرابه من “ربط المطالبة بدواء السرطان بما اتهم به بالإساءة لرسول الله، مع التأكيد أنني لم أقدم على ذلك في أي يوم من الأيام بل كان هدفي هو تطهير الإسلام من الخرافات، أما أولئك الحاقدين فأمعنوا بتركيب وقصّ ما يريدون نشره لتشويه سمعتي. لم أقلّل من قيمة الرسول محمد وآهل بيته في أي يوم. وفي كل الحالات، لماذا ربط الأمور الدينيّة بالأمور المعيشيّة؟ ألسنا كلنا نعيش بلا كهرباء والغذاء ملوّث والشعب يموت على أبواب المستشفيات”؟.
كرر عودة وصفه للساكتين عن الفساد بأنهم “أذلاّء”، معتبراً أن هذا الوصف ينطبق على كل ساكت عن الوضع الحالي، مستعيناً بحديث لأبي ذر الغفاري (أحد أصحاب الرسول محمد) الذي قال “عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس”، مشدداً على “أنني لا أدعو الناس للخروج على الحكّام بسيوفهم ولا أدعو للثورة، كل ما أريده أن يسمع السياسيّون وجع الناس، وإذا لم نصرخ فلا نستحقّ أن نكون بشراً أعزّاء، بل نكون بذلك أذلاّء أمام الطبقة الحاكمة”.
“لن أداهن”
رأى البعض من المجتمع الشيعي بياسر عودة صوتاً جديداً على الساحة، واتهمه البعض بزرع الشرخ والفتنة داخله. وذهب البعض أكثر من ذلك باتهامه بالتبعية للسفارات الأجنبية مطلقين عليه صفة “التشيّع البريطاني”. يضحك عودة لدى سماعه هذه الاتهامات، ويقول “كنا ولا زلنا وسنبقى مع المقاومة ونقف معها طيلة حياتنا في مواجهة إسرائيل، لكن هذا لا ينفي عدم وقوفنا بوجه من يحاول ذلّنا. يقولون دائماً أن هناك أولويات. هل يوجد أولوية أكثر من العيش بعزّة وكرامة”؟.
بألم تحدث عن أن “الأعداء لم يتركوا شيئاً إلا واتهمونا به من فاحشة وتبعية للسفارات الغربية، وهذا “جهد العاجز” بأن يردوا علينا بالإشاعات والاتهامات بالعمالة أو أي شيء آخر. الميزان بالنسبة لي هو الله. ياسر عودة إنسان عادي، لكنني لست مستعداً لأداهن في الحق أحداً مهما علا شأنه، أكان مرجعاً دينياً أو سياسياً”.
في سياق آخر، تباهى إمام مسجد السجاد بنبرته المرتفعة في الحديث “لأنها تعطي نتيجة وهذا الأسلوب قرآني تعلمناه من أهل البيت ومن الأنبياء”، مستذكراً حادثة النبي موسى حينما بدأ قومه بعبادة العجل فألقى حينها الألواح على الأرض، مضيفاً: “واليوم نحن في زمن بات الناس يعبدون الخرافات ويبعدون عن الحقيقة، فمن الطبيعي أن أصرخ، وفي موضوع الفساد من الطبيعي أن أصرخ أيضاً لأنني ومنذ صعودي المنبر كنت أحضّر الدراسات والتقارير حول الفساد إلا أن أحداً لم يسمع، لكن النبرة المرتفعة دفعت الناس لسماعي، أريد تحريك الناس ليطالبوا بحقوقهم”.
لا يخاف عودة من قول ما يراه حقاً، فـ”الإمام الحسين الذي نعيش أيامه الآن وقف بكل قوة أمام الظلم والسلطان الجائر، وبالتالي الإمام الحسين علّمنا ليس فقط البكاء بل الوقوف وقفة حقّ، وعلينا أن نقف هذه الوقفة أمام من يسرق المال العام ومن يحرم الفقير من الغذاء والكهرباء وكل حقوقه. وإذا لم يشعر المواطن بالإهانة من الوضع الراهن، لا أدري إلى أي مستوى من الخنوع قد وصلنا”.
“أنا على نهج فضل الله”
في الامور العقائديّة والدينيّة، اعتبر تلميذ المرجع السيد محمد حسين فضل الله “انني اهاجَم بسبب انتسابي لهذه المدرسة، والبعض الآخر يهاجمني لأنهم تعايشوا مع الخرافات وتمسّكوا بها، ووجدوني عدواً لها”.
في كتابه “قضايا خلافيّة”، عرّف الشيخ عن نفسه بأنه “لم يهتم بكثرة الروايات ولا بوثاقة الرواة لأن الكثير من الكذبة والمغالين وأعداء الإسلام وضعوا أحاديث مكذوبة على لسان الرواة الموثوقين”. وأكد أن منهج تفكيره مبني على قاعدة الإمام الصادق الذي قال “ما جاءك في رواية من برّ أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك في رواية من برّ أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به”. إذا القرآن هو الأساس في فهم عودة للدين. وعن دوره كرجل دين اعتبر أنه “من واجبي أن أكون مسؤولاً أمام الله وأمام الإسلام ولو رشقني الجميع بالحجارة وصولاً للارتقاء بالإنسانية وألاّ أكون شاعر بلاط أو مدافع عن سلاطين”.
وبألم، انطلق عودة للحديث عمّا حصل معه داخل مؤسسات السيد فضل الله، وكيف “ضغط الجميع عليها لطردي من الهيئة الشرعيّة فيها ومن مسجد “السجاد”، إلا أن السيد علي فضل الله، نجل المرجع السيد محمد حسين فضل الله، لم يقبل بذلك وقالها علناً أنني جزء من المؤسسة”، معتبراً أنه “نتيجة الضغوط اضطر القيمون لايقاف حلقاتي المباشرة على التلفزيون. والحجّة أنني كنت سبباً بتراجع التبرعات لهذه المؤسسات وللأيتام، لكن هل يعرف القيمون أن بعض الناس توقفوا عن التبرع لتلك المؤسسات بسبب منع ياسر عودة عن المباشر”؟. وشدد على أن “علاقته مع فضل الله ممتازة”.
“أشعر بذل المواطنة”!
وردا على سؤال عمّا اذا تعب الشيخ ياسر من الشتائم والهجوم عليه؟ أجاب ياسر أنه إنسان، وبالتالي “من الطبيعي أن أتعب وأن أشعر بالإشمئزاز من الواقع الذي وصلنا إليه. وصراحة أشعر بالألم عندما يتعرض البعض لشرفي وهذا أمر لا يقوم به إلا إنسان سافل”، مضيفاً “الحق متعب جداً ولذلك على المرتاحين التفكير جيداً لأنهم بخطر أمام الله”.
رغم كثرة كارهيه، إلا أن عودة لم يضع حزاماً أمنياً حوله ولم يعتمد على المرافقين الشخصيين. يؤمن بقول القرآن “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”. ويقول: “لا أرى الحياة مع هؤلاء الظالمين من رجال دين وساسة ولاهفين نحو إرضاء السلاطين عزيزة، أنا كمواطن أشعر بذل المواطنة، وكعالم دين شيعي أشعر بذل التشيّع بسبب حراس الهياكل الذين يحاربون أهل البيت بأقدس ما عندنا”، ويختم بقول للإمام علي في نهج البلاغة: “الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين”.
قد لا يوافق الإنسان عودة بأيّ من أفكاره، إلا أن صرخته بوجه “سلاطين” هذا الوطن يجب أن تُحترم، وأن تشكل دافعاً أمام المواطنين للوقوف بوجه الذلّ الذي نعيشه بسبب الفساد المستشري في هذا البلد.
—
المصدر: النشرة